يوميات أبو سليم: موافقة أمنية !

قبل مغيب شمس يوم صيفي، وبعد نهار مضنٍ من الكدّ و التعب. هيأت أم سليم “عدّة المتي” بعد أن وضعت الإبريق فوق موقدة صغيرة قد غطّتها بلوح تنك قديم. وجمعت أغصان شوك وحشائش جافة أولعت فيها ناراً، و نادت زوجها:”يا بو سليم.. تاع شراب متي”. أجابها ابو سليم: “جاي جاي يا مرة.. لسكّر عالجاجات”.

أتى ابو سليم، وافترش رقاقة بالية متناولاً كاسة المتة الخالية من السكر لقلّة وجوده هذه الأيام وغلاء سعره. كان طعم المتة كالعلقم بعد أن خلطتها أم سليم بأوراق الشيح والزهورات التي جمعتها خلال فصل الصيف، الذي سيودعهم بعد أيام. غصّ ابو سليم من أول رشفة، زادت من مرارة الأيام التي يعيشها.

سألت أم سليم: “دخلك شو صار منشان بيعة الكرم؟ الولد عبنق بدو يسافر، ومش عارفين كيف بدنا ندبّرلو مصاري”. أجابها ابو سليم: “لقيت مين يشتريه.. بو فواز جارنا، لأبنو الي مسافر عالأمارات.. بس عقدتنا بالموافقة الأمنية، كلّ شي صار بدّو موافقة أمنية”. اندهشت ام سليم وقالت: “موافقة شو يا زلمي ؟! شو دخل الأمن بهالشغلة ؟! شو هوي كرم سياسي ؟!”.أجاب ابو سليم: “هي وقّفت ع بيعة الكرم.. وكمان الوكالة.. وجواز السفر.. كلّو بدّو موافقة أمنية”.

ردّت ام سليم: “آه.. يا نغصة عمري.. شو بدنا نعمل.. الله يلعن البلاد اللي ما بتحمل أهلا.. ولاد الحرام ما خلّو شي مادحشو خشومهن فيه.. الله يقلب هالسجادة ونخلص”. قال ابو سليم بعد زفرة عميقة: “شايفلك يا مرة السجادة انقلبت علينا مش عليهن.. ع كل حال انجبرنا نحكي مع ابن بونشاقة اللي بالفرقة الحزبية منشان يحكيلنا مع تبع الأمن السياسي يدبرلنا الموضوع.. بس يمكن بدّو مصاري ابن الحرام.. ماهي حاميها حراميها.. ع الطالع و النازل بدّن يشفطوا من هالشعب المعثر.. مثل المنشار الله وكيلك”.

أثناء هذه المحادثة المحمّلة بالحسرات و التنغّصات، تناهى لمسمعهما أصوات عيارات نارية، حناجر تصدح بجوفيات حماسية تزيد هيجان النفوس وتدفق الدم في شرايين الجسم، وكأن موقعتي المزرعة و الكفر قد بدءتا الآن. أحسّ ابو سليم حينها وكأنّ أوصاله قد قدّت من فولاذ بعد أن تخشّبت منذ زمان. “ها ها  ..الله حيهن النشامى.. هذي الفزعة لتحرير القدس.. والجولان.. يمكن الدولة نوت ترد وها هوي الوقت المناسب”، وما قطع هواجس ابي سليم إلاّ صوت جاره ابو باسل ينادي عليه:”يا بوسليم.. بوسليم.. ابدكش تروح ع مضافة المختار ؟!”. ئجاب ابو سليم: “ليش شو مزوج حدا من ولادو ؟!” فردّ عليه ابو باسل: “ليش حدا قادر يتزوج هالأيامات ؟! بس في احتفال منشان انتخابات البلدية، و يمكن عازمين ناس من القيادي من فوق كمان”. احتار ابو سليم بماذا يجيب وقال في نفسه: “شو هالإحراج يا بن ال….؟! إذا مرحناش.. بتنفضنا تقرير إنو عرفنا وما رحناش.. وتاع روح وشوف الدبك والرزخ قدام القيادة.. والله مصيبة.. بس “الموافقة الأمنية” يا ربي شو هالحالة؟؟ لازم نيسّر أمر الولد”، وبعد مناجاة داخلية لم تدم طويلاً، قال في نفسه:لنروح و أمرنا لله”.

ذهب ابو سليم مع جاره، يجرّ أذيال الخيبة، و يحسّ وكأنّه يحمل أطناناً من القهر والذلّ، و كان الجار الموالي والمنافق يحدثه و قد صرع أذنيه بالمدح والإطراء و الشكر لنعم القيادة الحكيمة وهباتها و قدراتها في صدّ المؤامرات الكونية التي تحاك ضدّ هذا البلد، و أبو سليم لا يردّ إلاّ بتعابير مقتضبة و همهمات تخرج من بركان يشتعل داخله.

حضر ابوسليم مهرجان القرود بصدر ضيق حرج كأنّه يصعّد في السماء، و ترافقه ابتسامة الموناليزا الشاحبة و قبل أن ينتهي الحفل قام وغادره متجهاً إلى البيت عبر زقازيق مظلمة، خوف أن يراه أحد ما، ويلعن الساعة التي تزوّج بها و الساعة التي أنجب فيها وأصبح رهينة من يحب.

وصل ابو سليم البيت، مكنود الصدر.. خجلاً من نفسه، و لاعناً ساعة مولده، و نادى أم سليم:”يا ام سليم.. فرشيلنا بدي نام.. الله يلعن الموافقة الأمنية وساعتها !”. ردت ام سليم عليه: “بو سليم مستعجل بدك تنام.. وبغمزة لعوبة من عينها، قالت له:”بوسليم بدك تنام.. جبت موافقة أمنية ؟!”