يوميات أبو سليم: مكرمة القبور

لأكثر من عقد مضى.. ازدادت زيارات ذلك الضيف الثقيل إلى قرية ” أم الشلاحيط “. ضيف ثقيل، بلا موعد.. هو الموت! ومن لم يمت بآلة الحرب المقيتة، مات قهراً وذلاً وجوع. لكن عين القيادة الساهرة، لم تغفل يوماً على أن تكون شريكة له على مدى سبعة عقود.. رفيقان هما: “الموت والقيادة”، والمواطن المسكين أمانة في عنقها.. في حياته وفي موته.

لذلك،، أصدر الممثل الأعلى (ابو المراسيم) مرسوماً يقضي بتخصيص مساحاتٍ من عقارات أملاك الدولة، لنصب مدافن للموتى على امتداد ساحة الوطن بعد إعداد القوائم الإسمية اللازمة أصولاً من الدوائر والجهات صاحبة العلاقة.

دعت بلدية أم الشلاحيط مواطني البلدة -بعد أن خصّصت مقاسم المدافن حسب التصنيفات المقررة-للتسجيل خلال اسبوع من صدور المرسوم.. ومن يتخلّف يفقد حقّه في دفنه تحت تراب الوطن، والاستفادة من منحة الأب القائد ونعمه المدرارة التي يضفيها على رعاياه. وترافقت دعوة البلدية مع دعوة الفرقة الحزبية الأهالي للمشاركة في الإحتفال الذي سيقام في ساحة البلدة لتقديم آيات الشكر لمتمّم نعمته.

يومان والبلدة تغلي باجتماعات ولقاءات ومؤامرات بين عائلاتها وصراع أسري تمّ فيه نشر التاريخ العربي منذ الإنقسام القيسي –اليمني وعرب الشمال وعرب الجنوب والأفخاذ والبطون.. ولغاية الآن.. واستقر الأمر اخيراً بأن” كل واحد حر بحاله “.

جهّز أبو سليم حقيبة الخيش المخصّصة للزوادة أيام الحصيدة، ولكن هذه المرة ليضع فيها أوراقه الثبوتية،وانطلق إلى (مدافن المكرمة). وصل المدافن ليجد طابوراً طويلاً.. اصطفّ بدوره وبقي لمدة ساعتين يتجاذب أطراف الحديث والسيرة التي شغلت الناس وستبقى تشغلهم لأعوام.

مرّ  أبو سليم على اللجنة المشكّلة من امين الفرقة الحزبية والسايس -الشيخ الذي استلم منصبه الديني هذا بعد أن تقاعد من عمله في المخابرات- و رئيس البلدية، وعنصر مفرز من الجهات الأمنية. أخذوا أوراقه الثبوتية، وأعطوه سجلاً وبطاقة تحدّد فيه مكان الدفن حسب تصنيف المقاسم وتسميتها من الجهات المختصّة حسب التالي:  -مقسم1 للحزبيين أعضاء عاملين- والآخر للموالين، ومقسم جانبي له فرعين، للمعارضين السلميين فئة أ معارض إيجابي، فئة ب معارض سلبي. و مقسم للذين قاموا بتسوية وضعهم الأمني.

أما المقسم الأخير فقد خصّص للفقراء والمساكين و أبو سليم كانت حصته في المقسم الأخير بعد أن غمزه عنصر الأمن وطبطب على كتفه أمين الفرقة كإشارة منهما بمساعدتهما له.

-يلّا.. ابوسليم.. اختار قبرك واكتب وصيتك..انت بتستاهل الرحمي..”.
-اييييه…متكلين عَ الله.. طول عمري بمشي جنب الحيط وبقول يارب السترة.
سار أبو سليم بين المدافن منشغلاً بما كتب على شواهدها من وصايا المرحومين في المستقبل، ولكنه اندهش بما كتب على شواهد قبور تراصفت جانب بعضها لموتى سابقين.

-شاهدة 1: كل من عليها فان.. مدفن المرحوم”…..” العمر 3 أشهر، شاهدة 2: مدفن المرحوم”…” العمر يومان، شاهدة 3: مدفن المرحوم”….” العمر اسبوعان.

سأل أبو سليم العامل المختصّ بالتسجيل: “شو خي معذا …؟! هذي مقبرة طلائع يعني و للّا حضاني..؟!

-لا خي بوسليم هوني منسجل للواحد قديش عاش أيام سعيدي بحياتو بس..”

قال “ابوسليم” :” آآآآ….هيك لكان..؟ طيب خي معذّى، بدي كلّفك سجلّي هوني وكتوب عَ شاهدة القبر- المرحوم أبو سليم جابر ابن جبر.. من”.. عند أمو …للقبر”.