الحقف: عندما هَزمت أصغر قرى السويداء الدولة البائدة

الساعة الواحدة بعد مُنتصف الليل، يوم التاسع عشر من مايو/ايار، 2015، دوي انفجارٍ يهز سكون قرية الحقف، في ريف السويداء، تبعه إطلاق نار كثيف، كأنه عاصفة من الرصاص؛ مع أصوات غرباء انتشروا على حين غرّة، في أزقة القرية الضيّقة، يرددون شعارات الدولة البائدة، ويصيح بعضهم: سلّموا أنفسكم، القرية سقطت !

كان اسم الحقف حينها، غير مألوف للكثيرين، فتلك القرية الوادعة، التي لا يتجاوز عدد سكانها الفي نسمة، تقع أقصى شمال شرق السويداء، وتكاد تكون منعزلة عن القرى المحيطة بها.في عام 2014، سيطر تنظيم داعش الإرهابي على مساحات شاسعة من بادية السويداء، ومنطقة بئر قصب، وهجّر سكان بعض القرى النائية في المنطقة، بعدما استباحها. وكان التنظيم وقتها، في أوج قوته وبطشه، حدوده تبدأ على بعد مئات الأمتار عن قرية الحقف، وتصل إلى العراق.

دون سابق إنذار، وتحت جنح ظلام ليلة التاسع عشر من أيار، اقتحم مئات الدواعش قرية الحقف، من محاورها الأربعة، وقطعوا الطريقين الوحيدين المؤديان لها، ثم شرعوا يطالبون السكان بتسليم أنفسهم، ويطلقون النار على كل هدف يتحرك أمامهم. ومن كثرة أعدادهم، كانت مجموعاتهم تشتبك مع بعضها بالخطأ، في بعض الأحيان؛ وقد ظنّوا أن القرية سقطت بين أيديهم، إلا مبنىً واحداً في الجهة الغربية، كان يعتليه ثلاثة من شباب القرية، ويقاومون الغزاة، بالبنادق والقنابل اليدوية، فافتعلوا مجزرة بعناصر التنظيم، الذين عجزوا عن اقتحام ذلك المبنى، وكانت جثثهم تملأ محيطه. أما الشباب الثلاثة، فاستُشهد واحدٌ منهم، كان طالباً جامعي، يتطوع لحراسة قريته في الليل، وأصيب الأخرين بجروح، لم تثنهم عن الاستمرار بالقتال، حتى الصباح.

ولم تقتصر المقاومة على ذلك المبنى، كما ظنّ عناصر التنظيم، فأصبح كل منزلٍ في القرية، بداخله قطعة سلاح، قلعةً وحصناً، يتصدّى لجحافل الغزاة، فاستبسل شباب القرية بالدفاع عنها، مسطّرين ملاحماً من البطولة والشجاعة، تحتاج عشرات التقارير للحديث عنها. ويبدو أنه لم يكن في حسبان التنظيم الإرهابي، المتعطش للدماء، أن آلاف الرجال، والشيوخ، وحتى الفتية واليافعين، من أقصى السويداء إلى أقصاها، سيجتمعون في ساعات معدودة، ويصلون إلى مشارف القرية، ممتشقين ما تيسر لهم من سلاح، حتى أن بعضهم كانوا يحملون بنادق صيد، وأسلحة بيضاء، ينتظرون انقشاع الظلام، للإغارة على الأعداء، بعدما استُشهد رجلين، كانا يحاولان فتح الطريق، والوصول إلى القرية.

مع إشراقة الفجر، كانت جثث الدواعش مبعثرة في شوارع الحقف، ومن تبقى منهم حياً، فرّ مذعوراً من هول ما شاهده: حشود كبيرة من المقاتلين، تندفع كالسيل الجارف، من قرية البثينة المُشرفة على الحقف. كان الآلاف يسيرون إليها كأنهم في يوم الحشر، مستعدون للتضحية، لعدم السماح للرايات السوداء بتدنيس أرضهم، فانكسر التنظيم الإرهابي، وهُزم شرّ هزيمة، عندما كان بأقصى قوته، في أول تجربة له لغزو السويداء.

لم تكن تلك المعركة وحدها، عنواناً لصمود وشجاعة أهل الحقف، الذين تشبّثوا بأرضهم، فلم تخيفهم الراية السوداء، التي كانت ترفرف على بعد كيلو مترات قليلة منهم، منذ عام 2015 حتى 2017. ورغم سقوط مئات القذائف طيلة هذه الفترة على القرية، صمد السكان فيها، ليكونوا خط الدفاع الأول عن الجبل، مقدمين دروساً من التضحية والفداء، تحتاج كُتباً لسردها.