في انتظار يوم آخر

أمضى ليلته يتقلّب على جنبيه، يصارع أرقاً ما انفكّ يجثو على صدره لسبع سنوات خلت، وقبل بزوغ الفجر بقليل، سرق غفوة بسيطة من عرش النوم الوثير، وصحا أبو سليم السوري حين لامس عينيه شعاع ضوء دخل غرفته خلسة. تمطمط في فرشته لعلّه يليّن مفاصله قليلاً ويخفف من وخز مؤلم فيها.. إنّه برد تشرين الذي ينذر بقدوم شتاء قارس، يجعل الحياة جحيماً لا يطاق في ظلّ هذه الظروف الصعبة.

قام من فرشته، فرك عينيه، وتوجّه إلى جيوب سترته يبحث عن بطاقة التكامل التي تمثّل هويته السورية وطريق الحصول على متطلّبات المعيشة التي حدّدتها الحكومة العتيدة لكلّ مواطن ما زال على قيد الحياة.


وجد بطاقته و نقوداً من فئات مختلفة لا تتجاوز الألف ليرة؛ فهذا ما تبقّى من راتبه الشهري بعد خمسة أيام من استلامه.

بدأ أبو سليم رحلته اليومية المعتادة، و توجّه إلى مخبز البلدة يحجز له دوراً مبكّراً، ولكن حساب السرايا غير حساب القرايا، فقد وصل إلى الفرن واصطف في طابور طويل مخصّص للمدنيين، ولكن عينه تتطلّع لطابور مخصّص للعساكر وأصحاب النفوذ و الشبيحة المتنمّرين. و كان أبو سليم يهمس لنفسه: ” معلوم يا عمي ..دور للعساكر..عاأساس ها وصلتكن من الجبهة..حرّرتوا القدس يا ولاد العايبة”.

وبعد ساعة انتظار وما أن اقترب دوره، قامت ضجة خلفه,و تعالت أصوات شتائم ولعنات تنال امهات المتعاركين و كما يقال: “لم تترك ستر مغطى”. التفت ابو سليم بسرعة ليجد شاباً ينزف وقد تحنّى وجهه بالدم.. تعالى الصراخ: “يا لطيف الطف…شو صار يا جماعة ؟! بشو انضرب هالشب لصار ينزف هيك؟!

وبعد أخذ ورد، وتفحيصٍ وتمحيص تبيّن أن الجروح النازفة بغزارة سببها قطعة من رغيف خبزٍ جاف يبدو كصفيحة معدنية رقيقة، و أدرك ابو سليم حينها أنّ خبز الحكومة ليس للأكل فقط ، بل له استخدامات أخرى، فقد يستخدم كسلاح للدفاع عن النفس في هذه الفوضى الأمنية، وهو سلاح مرخّص من قبل الدولة، وعلف للماشية والدواجن القادرة على مضغه. همهم أبو سليم: “ايه يا عمي شو بدك…الحكومة أفهم من بني آدم”.

عاد أبو سليم منكسراً و متحسّراً؛ فلم يكن له اليوم في الخبز نصيب. قبل أن يصل البيت، وفي أول الحارة وصلت لمسامعه زغرودة أحيت بعضاً من نفس تموت ببطء.. اقترب أكثر من البيت وقال مندهشاً: “يقي زلغوطة من عنا..! شو في..! يا رب لطفك، هذي إم سايم ع البرندا وضحكتا واصلة لعندي”.

قابلته أم سليم ملوحة بيديها: “يا بو سليم يا بو سليم.. إجتنا رسالة الغاز”.

دهشة، فرحة، صدمة… لم يدر ما يفعل، بخبر خاطف بعد طول انتظار وترقب عقب انكساره أمام الخبز، قال في نفسه: “ع مهلك يا بو سليم.. شوفة النفس مش مليحة” وما قطع هواجسه إلا صوت أم سليم تقول له: “خوذ ها ثمن قنينة الغاز، كنت مجمعتو من زمان”، دس النقود في جيبه مع البطاقة وحمل الجرة الفارغة على كتفه لأن ما جمعته أم سليم لا يكفي ثمن الجرة الجديدة وطلب التاكسي.

خرج من الحي مختالاً كطاووس وتوجه لمعتمد الغاز،ز وحين أقبل على محل التوزيع وجده مقفلاً، وبعض من أصحابه المبشرين بالرسالة ينتظرون أمامه في هرج ومرج فحياهم متسائلاً: “يصبحكن بالخير.. شو القصة ليش مسكر أخونا؟” فأجابوه: “يصبحك بألف خير.. يا خيي قال راح ع السويدا ليسوي وضع ابنو، ساعتين زمان وبيرجع لإنو ابنو المسافر مطلوب ع الجيش انشالله ما بيطول” فقال آخر: “يا خيي شو بدو بهالشغلة! حدا بيروح ع المقصلة بإجريه؟! بعدين مين قلك إنو بيخلوه يخدم بالمنطقة الجنوبية يعني..؟” وقال آخر “كلو كذب بكذب، اللي قبليهن عملوا تسوية وعدوهن بالمنطقة الجنوبية وأخذوهن ع إدلب ودير الزور ونصن ما رجع” فرد أحدهم وبدا خائفاً:”يا خيي عبيقولوا هالمرة غير” فأجابه صوت كهل: “يا عمي بيقول المثل: ما متت، بس شفت مين مات” فعقب أحد الشباب: “عمي قصدك تقلو الحمار بيقعش بالجورة مرتين!؟” فضحك له الكهل وأضاف: “عمي حكومتنا مثل شباط.. مافي ع كلاما رباط”.

أخيراً، وبعد ساعات من الوقوف تحت شمس الظهيرة الحارقة.. أقبلت سيارة “بيك-أب” تئن من حملها الثقيل من كل أنواع الأشجار الحراجية التي غطتها من جميع الجوانب، يقودها المعتمد الذي توقف وترجل منها مع شابين ملتحيين مسلحين، شكرهما وسدد حسابهما قبل أن يغادرا، ثم التفت لمنتظريه معتذراً: “تواخذوناش يا جماعة تأخرنا عليكن، حملنا السيارة نقلة بواري قطعناها قبل كم يوم.. وبدنا فزعتكن لننزلن منشان نلحق نخلص دور الغاز اليوم، الله حيهن النشامى”، فاضطر الشباب مكرهين لنقل الأشجار إلى مستودع مجاور لبيع الحطب حتى يباشر المعتمد بتوزيع الغاز.

عاد أبو سليم إلى البيت في المساء مع جرة الغاز منهكاً لا يستطيع التقاط أنفاسه بعد يوم شاق مضن، فاستقبلته أم سليم مهللة بالحامل والمحمول ولم تدر كم عانى أبو سليم للحصول على تلك الجرة. بقي أبو سليم صامتاً.. وما إن دخل إلى الحمام ليغتسل حتى صاح: “كمان المي مقطوعة.. اخت هالعيشة” ردت أم سليم: “نسيت خبرك انو خالصة، بلكي ندبر مصاري نجيب نقلة” فيرد أبو سليم: “منين بعد بدنا ندبر..!”، ركّبت أم سليم جرة الغاز وبدأت بطبخ المجدرة أكلة أبو سليم المفضلة احتفالاً بوجود الغاز في المنزل.
اجتمعت العائلة بعد المغرب على كاسة متة مستغلة ساعة الكهرباء الواحدة قبل أن تنقطع لخمس ساعات تالية -على الأقل- ويبقى شعار التقنين في ذهن المواطن السوري (5\1). بعدها، دخل أبو سليم مرهقاً كي ينام وتبعته أم سليم تسأله: “شو يا بو سليم..! لإيمتى بدا تضلا هالحالة؟!” أجابها أبو سليم متكاسلاً: “ايييه يا إم سليم.. ما دام فهيدة بداركن.. دفَّانكن ما يستريح”، صاحت إم سليم: “شو عبتقول..؟ مين هذي فهيدة؟؟؟ وشو بيعرفك فيها؟؟” قال لها أبو سليم: “هههه بعدين.. بعدين بقلك” و أغمض عينيه.. بينما بقيت أم سليم قلقة متسائلة: “مين فهيدة هذي؟!”.

#يوميات_أبو_سليم_السوري.. زاوية اسبوعية جديدة من السويداء 24.